د. ربيع شاكر المهدي - الوحدة اليمنية لم تكن حدثاً عابراً في سِجل التاريخ، بل كانت خلاصة نضالات طويلة، وأملاً جمَع شتات الهوية في جسد وطني واحد.. حين توحَّد شطرا اليمن في 22 مايو 1990م، لم تكن الغاية مجرد دمج مؤسسي أو جغرافي، بل تأسيس وطن قادر على استيعاب التنوع، وتحويله إلى مصدر قوة لا إلى سبب خلاف..
لكن التجربة بعد الوحدة كشفت أن التوحيد الجغرافي لا يكفي ما لم يترافق مع توحيد في الرؤية، وفي عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة والمساواة والكرامة لكل مواطن، بغضّ النظر عن منطقته أو انتمائه.. لقد واجهت الوحدة هزات متتالية -سياسية، عسكرية، ومجتمعية- أدّت إلى تصدُّع في الثقة بين مكونات الشعب اليمني، وأعادت طرح سؤال كبير: كيف نحافظ على الوحدة؟، بل الأهم: كيف نعيد تشكيلها على أسس أكثر عدالة وواقعية؟..
وحقيقةً أقول بأن التحدي الراهن ليس في الوحدة ذاتها، بل في إدارة الدولة، حيث تآكلت بُنية الدولة بسبب الحروب والصراعات، وتراجع مفهوم المواطنة المتساوية أمام تصاعد الهويات المناطقية والولاءات الضيقة، وصار جنوب الوطن يتحدث عن التهميش، والشمال يعاني من الانقسام، والشرق يبحث عن نصيبه من السلطة والثروة، كل طرف يمتلك روايته، رغم أن اليمن لا يحتمل أكثر من هوية واحدة تُصاغ من مجموع هذه الروايات، ولكل ما ذكرت لا بد من خارطة طريق وطنية واقعية، تقوم على مبادئ تعترف بالتنوع وتحترمه فاليمن ليس جسداً متجانساً، بل فسيفساء من الهويات الثقافية والتاريخية، ولهذا يجب أن لا تمحوَ الوحدة هذا التنوع، بل تديره بحكمة ضمن إطار وطني جامع ويُصاغ دستور جديد يعكس طموحات اليمنيين جميعاً، ويضمن الحقوق والحريات والتمثيل العادل، ويؤسس لمرحلة تتجاوز الصراع عبر مصالحة وطنية شاملة وحقيقية لأنه لا وحدة حقيقية بدون تصفية آثار الماضي ورد المظالم، وإرساء قواعد العدالة الانتقالية والمصارحة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس صحيحة، وبما يضمن استقلال القضاء، وحيادية الجيش، وفاعلية الأجهزة المدنية، من أجل بناء ثقة مجتمعية جديدة..
الوحدة اليمنية لا يجب أن تُختزل في تاريخ 22 مايو، بل تُقرأ كمسئولية دائمة، و مشروع طويل الأمد يتطلب تجديداً مستمراً، فوحدة اليوم ليست نسخة من الأمس، بل صيغة جديدة تستوعب دروس الماضي، وتفتح أفقاً لمستقبل تتساوى فيه الحقوق و تتكافأ فيه الفرص..
إن الطريق إلى الوحدة الحقيقية الصادقة المستديمة يبدأ من الاعتراف بأن الوطن يتسع للجميع، وأن لا أحد يملك الحق المطلق في تمثيله دون الآخرين، وحين نؤمن بذلك، فقط حينها، نكون قد بدأنا أولى خطوات الخروج من دوائر التمزق نحو وطن موحّد بالعدل، لا بالقوة؛ وبالانتماء، لا بالإكراه.
|