محمد فرج - منذ أن أمرت الإدارة الأميركية بتحريك حاملة الطائرات جيرالد فورد إلى شرق المتوسط، والعالم يتساءل عن طبيعة الدور الذي قد تؤديه واشنطن إذا توسعت الحرب في المنطقة: هل جاءت حاملة الطائرات الأميركية لتمنع حرباً شاملة أو لتشارك فيها؟ يتوقف استشراف حجم المشاركة الأميركية على فهم طبيعة الدور الذي تريده لنفسها في المنطقة، ومدى أولوية هذه المنطقة ضمن أجندتها واستراتيجية الأمن القومي الخاصة بها، وتحديداً بعد اشتداد الحرب على الجبهة الأوكرانية.
واشنطن لم تعد وسيطاً
مع أنها لم تكن وسيطاً يوماً، وكانت دائماً طرفاً في الحرب، إلا أنَّ الولايات المتحدة اخترعت صورة الوسيط وصدّرتها، وفي كل حقبة بطريقة تتناسب مع شروط المرحلة:
في حرب أكتوبر، وبعدما مدّت واشنطن جسرها الجوي دعماً لـ"إسرائيل"، أدت دور الوسيط بعد الحرب في مفاوضات فصل القوات. كان هذا الدور الوحيد الممكن بالنسبة إليها في إطار الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.
* بعد الانهيار السوفييتي وتحول الولايات المتحدة إلى قوة منفردة مطلقة في العالم، كانت مؤتمرات "السلام" والوساطة هي الصورة "الأكثر ديمقراطية" و"عدلاً" التي تعبر من خلالها واشنطن عن مبدأ القوة المتفردة. ومن تلك الصور:
(1) الاستثمار في مفاوضات أوسلو عام 1993م، وحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون شخصياً فيها.
(2) طرح خريطة الطريق خلال إدارة بوش الابن 2003م التي قادت أعلى موجة من الحروب الأميركية على المنطقة أساساً. لم تكن نتيجة الخريطة إلا انتهاء انتفاضة الأقصى من دون أي مكاسب حقيقية للفلسطينيين.
(3) طرح مشروع أنابوليس لإحياء خريطة الطريق من خلال كوندوليزا رايس، فكانت جائزة الترضية هي العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2008م.
(4) منذ عام 2009-2013، عيّن أوباما جورج ميتشل مبعوثاً خاصاً للسلام في الشرق الأوسط، وانتهت المهمة ومعها كل وعود أوباما بالتغيير مع انطلاق موجة "الربيع العربي" وانكشاف الموقف الأميركي فيه.
(5) كانت تجربة ترامب مهمة في كشف ملامح السياسة الخارجية الأميركية، وتحديداً خارج إطار النخبة المثقفة، ومن ذلك دور "الوسيط" الأميركي في القضية الفلسطينية، فكان مشروع صفقة القرن الذي طرحه ترامب من دون حتى العودة لا للسلطة الفلسطينية ولا للأطراف الإقليمية المعنية بالأمر، تأسيساً لصورة جديدة للولايات المتحدة، وليس لدور جديد. ليس هناك وسيط أميركي؛ هناك طرف يحاول فرض الشروط والصيغة المطلوبة بقوة رجل الأعمال الشرس.
بعد فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، انتشر عدد كبير من دراسات بنوك التفكير في الولايات المتحدة التي تدعو في أغلبها إلى استعادة الصورة الأميركية في الوساطة في القضية الفلسطينية. كانت هذه الدراسات تهدف إلى إعادة ارتداء القناع الأميركي الذي لم تخلعه الإدارات الأميركية من قرار تقسيم فلسطين إلى إدارة أوباما.
وتمثلت توصيات هذه الدراسات في:
(1) معالجة خطوة السفارة التي قام بها دونالد ترامب من دون إعادتها إلى "تل أبيب".
(2) تجديد العلاقة مع الشعب الفلسطيني بشكل مستقل.
(3) إعادة فتح البعثة الأميركية لدى الفلسطينيين.
(4) إعادة تفعيل مهمة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
(5) معالجة الإشكاليات الاقتصادية، تحديداً في غزة.
(6) حل إشكاليات التنقل والماء والكهرباء، وخصوصاً في غزة.
(7) ردع عمليات الضم والاستيطان.
( إجراءات تخفف من ظروف الأسرى.
وبما أن إدارة بايدن لم تفعل شيئاً في هذا أو ذاك، وألحقت ذلك بموقف فاضح بعد عملية "طوفان الأقصى"، فنحن نكون أمام حالة من الانكشاف النهائي للموقف الأميركي، بدأه جمهوري (ترامب) وأتمّه ديمقراطي (جو بايدن).
وبذلك، لم تعد هناك خطوط فاصلة بين النهجين المتوازيين في الولايات المتحدة؛ عصا الجمهوريين ووضوحهم، وجزرة الديمقراطيين وضبابهم، ولكن إلى أي حد تبدو واشنطن مستعدة للمشاركة العميقة والمباشرة في حرب شاملة في المنطقة؟
ما الذي يحدد حجم المشاركة الأميركية في أي حرب في المنطقة؟
يمكن الحديث عن 3 عوامل تحرك منطق التعامل الأميركي مع أي حرب شاملة في المنطقة:
(أ ) ترتيبات خاصة في المنطقة: نتحدث هنا عن الترتيبات الأمنية والعسكرية في الدرجة الأولى. ما هذه الترتيبات التي تسعى الولايات المتحدة إلى إنجازها قبيل التفرغ الكامل الذي تريده على جبهتي الصين وروسيا؟ ما الذي نجح منها؟ ما الذي تبقى؟
(ب ) ما وضعية الجبهات الأخرى في روسيا والصين؟ هل تستطيع الولايات المتحدة خوض "الحروب المتزامنة"؛ معركتين أو ثلاث في وقت واحد؟
(ت ) مدى الانقسام الأميركي الداخلي حول الدور الإمبراطوري خارج الحدود.
منذ عام 2020م، حددت وثائق الأمن القومي الأميركي الأولويات، واعتبرت جبهتي روسيا والصين وإصلاح العلاقة مع الأوروبيين جبهات أكثر أولوية من الشرق الأوسط. لذلك، بحثت الولايات المتحدة عن مجموعة من الترتيبات (Pre-Requisites) قبيل التركيز النهائي على الجبهات الأكثر أولوية:
(1) محاولة تحييد إيران قدر الإمكان عبر العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وهو الأمر الذي لم ينجح. وقد فوجئت الولايات المتحدة بأن الجائزة التي تنتظرها إيران من العودة إلى الاتفاق لم تمنعها عن تحالفاتها الاستراتيجية مع روسيا وحركات المقاومة، ما اضطر واشنطن إلى البحث عن مستوى آخر من التفاهم (الإفراج عن جزء من الأموال المحتجزة وعدم فرض عقوبات جديدة...)، وهو الأمر الذي لم يساهم أيضاً في تغيير الموقف الإيراني من القضايا الحساسة والاستراتيجية. لذلك، يجب الانتباه هنا: ليست "إسرائيل" المتذمرة من منع الولايات المتحدة من العودة إلى الاتفاق النووي، إنما ثبات الموقف الإيراني من الملفات الاستراتيجية.
(2) كان نقل "إسرائيل" إلى المنطقة الوسطى للقوات الأميركية جزءاً من التحضيرات الأميركية اللازمة للتفرغ لجبهتي روسيا والصين. أرادت واشنطن تحالفاً أمنياً (ناتو عربي أو غيره) يريحها من المهمات اليومية على الأقل، وتكون "إسرائيل" قائدة له. لذلك، عززت اتفاقية التفاهم 2019-2028م التي تقضي بتزويد "إسرائيل" بـ3.3 مليار دولار سنوياً كتمويل عسكري أجنبي، و500 مليون دولار سنوياً مساهمة في برنامج الدفاع الصاروخي المشترك.
ونظمت التدريبات المشتركة لسنتكوم لتجمع "إسرائيل" مع مصر والسعودية والأردن وباكستان وسلطنة عمان. أسّست "NAVCENT"، وهو التحالف البحري الذي يهدف إلى مراقبة النشاط البحري الإيراني، وتأمين بنية تحتية دفاعية متكاملة تحمي من الصواريخ الباليستية والمسيرات والصواريخ الجوالة. درّبت "إسرائيل" بالذات على استدعاء القوات السريع خلال مناورات "جونيبر أوك".
يمكن القول إن جميع هذه التدريبات والتحضيرات فشلت، ولم ينشأ "ناتو عربي" بقيادة "إسرائيل"، والمهمات الأمنية التي بحثت الولايات عنها لا تبدو قابلة للتنفيذ والإنجاز، أقله على المديين القريب والمتوسط.
(3) ضمن الترتيبات التي تطمح لها الولايات المتحدة، بدأت بخفض عديد قواتها في الشرق الأوسط، ومن ذلك التراجع الكبير في قاعدة العديد في قطر التي وصل مجموع القوات فيها إلى 422 عنصراً فقط، بعدما وصلت في السابق إلى أكثر من 13 ألف عنصر.
كذلك، انخفض عدد العناصر في الأسطول الخامس في البحرين، بالمئات سنوياً، من 4533 منتصف 2021 إلى 4240 منتصف 2022، بحسب الإحصاءات المنشورة من وزارة الدفاع الأميركية. تعود الولايات الأميركية بعدها لترسل قوات مارينز إضافية في أغسطس من هذا العام، في إشارة واضحة إلى تخبط القرار الأميركي وعدم وضوح الرؤية والأولويات.
(4) إذا كانت الإدارة الأميركية قد خصّصت بلينكن لتحقيق إنجاز على مستوى التطبيع السعودي- الإسرائيلي، فقد تمت الاستعانة بدانييل شابيرو، السفير الأميركي السابق في "إسرائيل"، لتنسيق اتفاقيات "أبراهام" ومحاولة تعميقها.
يبدو أن الأمور على المحورين تسير بعكس الرغبات الأميركية؛ فمن جهة أولى، تشير التقارير المختلفة إلى أن درجة الاستثمار والتعاون المشترك بين "إسرائيل" والإمارات، الأكثر حماساً للتعاون، في تراجع عن السنة الأولى لاتفاقيات "أبراهام". ومن جهة ثانية، يبدو أن التطبيع السعودي - الإسرائيلي غرق هو الآخر، ولو مؤقتاً، في "طوفان الأقصى".
العامل الثاني الذي يحدد حجم المشاركة الأميركية في أي حرب في المنطقة هو وضعية الجبهات الأكثر أولوية مع روسيا والصين:
(1) إذا كانت الولايات المتحدة قد سحبت 300 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155 ملم من مخازنها الموجودة في "إسرائيل" لتغذي حربها في أوكرانيا ضد روسيا، فلا بد من أنها ستجد نفسها في أزمة توريد وإمداد في حال دخلت لعبة الحروب المتزامنة.
(2) إذا كانت الولايات المتحدة تفكر في تحريك جبهة تايوان، فإن الرد الصيني جاء مبكراً، وتحريك 6 سفن حربية باتجاه الكويت وصولاً إلى عمان هو دليل على أن القوة البحرية الصينية الضخمة مستعدة للمناورة خارج حدودها، في حال حاولت الولايات المتحدة توتير جبهة تايوان.
وأبعد من ذلك، باتت الصين مستعدة للمواجهة في سبيل الحفاظ على مصالحها في شبكة التجارة العالمية ومبادرة الحزام والطريق التي ترفض إدخال الولايات المتحدة إلى موانئها ومطاراتها للتوتير والاستهداف، وبالتالي تعطيل شبكات التزويد المرتبطة بالصين.
على مستوى ثالث، ثمة انقسامات داخل الخارجية الأميركية، وهي انعكاس طبعاً للانقسام داخل مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة، يتمثل باستقالات على خلفية التصعيد الأميركي بعد "طوفان الأقصى"، ومطالبة البيت الأبيض بعدم الانخراط أكثر في الصراعات خارج الحدود.
"على الولايات المتحدة أن لا تنخرط في حرب شاملة في الشرق الأوسط".. هذا ما تقوله المؤشرات الرقمية؛ فترتيبات واشنطن في المنطقة أمنياً وعسكرياً غير ناضجة، وجبهاتها الأكثر أولوية ما زالت إشكالية، والانقسامات الداخلية بدأت تتسع في مؤسساتها.
ولكن بعدما أخفقت واشنطن في حماية السعودية من مسيرات أنصار الله، وبدت مليارات الاستثمارات السعودية في أنظمة الدفاع الأميركية غير فعّالة، وبدت الولايات المتحدة غير مجدية لحلفائها، ما الذي سيحدث لصورتها لو التهمت الحرب الشاملة "إسرائيل"؟ هل تترك واشنطن عقلها خلفها، وتكفر بالمؤشرات الرقمية، وتركض خلف حرب الصورة وجنون الإنكار الإمبراطوري؟
|