د. حاتم الصالحي - منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أدركت القوى العظمى أن الحروب المباشرة بين الكبار لم تعد خياراً عقلانياً في ظل التهديد النووي والدمار الشامل؛ ولهذا، تحولت الصراعات الكبرى إلى حروب بالوكالة، وعبر الشركاء، وصراعات اقتصادية وتكنولوجية تدور رحاها في أطراف العالم، بينما يتجنب الكبار الاشتباك المباشر. اليوم، نشهد فصلاً جديداً من هذه الحرب الباردة، طرفاها من جهة الصين وروسيا، ومن الجهة الأخرى الولايات المتحدة وأوروبا، وفي القلب منها معارك تدور في ميادين غير تقليدية كأوكرانيا والشرق الأوسط..
أوكرانيا: أداة لاستنزاف الدب الروسي
في عام 2022م، كانت الحرب في أوكرانيا الشرارة التي فجّرت التوترات الكامنة بين الغرب وروسيا، لم تكن الحرب فقط دفاعاً عن "سيادة" أوكرانيا كما زعمت واشنطن، بل كانت جزءاً من استراتيجية أوسع لتوريط روسيا في مستنقع استنزاف طويل الأمد، إذ تم تسليح كييف بأحدث التقنيات الغربية، ودُعمت مالياً وسياسياً لتكون رأس الحربة في مواجهة موسكو، بينما بقي الناتو بعيداً عن الاشتباك المباشر، محتفظاً بموقع المراقب الممول والموجّه..
الصين.. اللاعب الصامت الذي استغل الضوضاء
بينما كان العالم مشغولاً بأوكرانيا، كانت الصين تبني بهدوء قدراتها الهجومية في الظل. لم تدخل بكين في صدام مباشر، لكنها استخدمت الحرب الاقتصادية والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا لقياس نقاط ضعف المنظومة الغربية، واستثمرت في تطوير أسلحة هجومية غير تقليدية: طائرات مُسيَّرة ذكية، وصواريخ باليستية مموهة، ونظم تشويش إلكتروني متقدم، تفوقت في بعضها على قدرات الدفاع الأمريكية التقليدية..
لكن الأهم من ذلك، أنها لم تحتفظ بهذه القدرات لنفسها، بل نقلتها – أو على الأقل نقلت تقنياتها – إلى شركائها في الشرق الأوسط؛ فالهجمات الأخيرة التي نفذها الطيران المسير اليمني على القطع البحرية الأمريكية، وآخرها استهداف المدمرة يو إس إس هاري ترومان (USS Harry S. Truman)، تشير إلى تحول كبير في موازين الردع؛ وسواء سقطت المقاتلة الأمريكية F-18 من سطح المدمرة هاري ترومان أثناء فرارها تفاديا لضربات الطيران المسير حسب الرواية الغربية، أو تم إسقاطها فعلاً بصواريخ هجومية حديثة قادمة من اليمن فإن الرسالة واحدة: الطيران المُسيَّر والصواريخ فرط صوتية باتت تتفوق على منظومات الدفاع الصاروخية الأمريكية المتطورة، وتجبر أقوى الأساطيل على التراجع والانسحاب..
نحو عصر جديد من الحروب غير التقليدية
ما يحدث اليوم هو بداية لعصر جديد من الحروب، لا تحدد نتيجته الجيوش النظامية ولا حاملات الطائرات، بل الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الدقيقة، وحرب البيانات والمُسيَّرات، فالمواجهة لم تعد حول من يملك عدداً أكبر من الرؤوس النووية، بل من يستطيع تعطيل أنظمة الخصم دون إطلاق رصاصة واحدة..
لقد فهمت الصين الدرس مبكراً، فالصراع لا يُربح بالقوة فقط، بل بالذكاء والوقت والتخطيط الاستراتيجي الطويل.. وفي المقابل، لا يبدو أن الغرب يدرك بعد حجم التحول الذي يطرأ على موازين القوة؛ فاليوم، تنشغل الولايات المتحدة وأوروبا في تطوير أنظمة ردٍّ ودفاع ضد الموجة الجديدة من الطيران المُسيَّر والصواريخ الفرط صوتية، بينما تستثمر الصين الوقت في الجيل التالي من الأسلحة الهجومية الدقيقة، التي لا تكتفي بالتفوق على الدفاعات الغربية، بل تُعيد تعريف مفاهيم السيطرة والردع العسكري.
|