|
|
|
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور * - تَمرُ علينا الذكري السنوية الهامة لذكرى يوم إجلاء المحتل البريطاني من جنوب اليمن، وتحديداً من مدينة عدن في ال30 نوفمبر 1967م، تلك الذكرى العظيمة التي بمناسبتها تم تأسيس أول سلطة وطنية يمنية بعد جلاء آخر جندي بريطاني محتل بقيادة المندوب السامي البريطاني المستر هام فري تريفليان.
تمرُ علينا هذه الذكرى المجيدة بعد أن دفع شعبنا اليمني العظيم جنوبه وشماله المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى، وإهمال متعمد لقُرابة 99٪ من أرض الجنوب، أي جنوب اليمن من جميع نواحي التنمية ومعطياتها من الحياة العصرية والحضارية والتنموية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وترك اليمن كما غزاها في 19 يناير 1839م، ولم يهتم المحتل سوى بمدينة عدن وعدد من مدن حضرموت التي خدمت وتخدم بقائه الاستعماري والحفاظ على مصالح معسكرات وجنود المحتل البريطاني طِيلةُ فترة احتلاله ل عدن ومدتها 128 عاماً.
يحتفل شعبنا اليمني بهذه المناسبة الغالية ونحن نعيش العام التاسع للعدوان السعودي والخليجي الإماراتي على اليمن، ولا زلّنا نعيش الحرب من خلال الحصار والغالب الموانئ البرية والبحرية والجوية ونعيش فترة الاحتلال السعودي ومن إمارة ومشيخة الإمارات العربية المتحدة الثاني، تحّتلُ لأجزاء هامة من اليمن وهي شواطئ جنوب اليمن وموانئه وجزرهِ الهامة.
هؤلاء الأعْرَابْ الخلايجه هم أعداد شعبنا اليوم بعد أن كانت بريطانيا (العظمى) ذات يوم هي عدوتنا باعتبارهم محّتلين لأجداد هامة من اليمن العظيم.
لقد سطّر الشهداء الأبطال بأرواحهم الزكية الطاهرة ملاحم بطولية خالده في مواجهة جنود الاحتلال البريطاني وعملائه وركائزه ومخبريه واجبروهم على الرحيل من عدن وبقية المناطق في جنوب اليمن، اجبروهم على الرحيل من أرضنا الطاهرة دون قيد أو شرط، وكانوا هؤلاء الشهداء الأبطال من تنظيم الجبهة القومية، وجبهة التحرير، والتنظيم الشعبي وحزب الطليعة الشعبية، ورفاق السلفي اليساريين ومن جُموع أبناء عدن وتعز وإب وبقية المناطق اليمنية من جنوبها إلى شمالِها.
نحن نعرف شخصياً جرد من هؤلاء الشهداء والمناضلين الأحياء، والعدد الأكبر للأسف لا نعرفهم ولم نتعرّف عليهم، وهذا للأسف الشديد حال البلدان النامية الفقيرة، التي قامت بها الثورات والانتفاضات والتمردات القبلية ضد المحتل البريطاني يوم ذاك.
من هَنا تَكْمنُ الإشكالية في توثيق الأحداث بأمانة وصدق، لأن البلدان الفقيرة تفتقر إلى مراكز البحوث والدراسات التي تحتوي على كنوز تاريخ هؤلاء الأولين الذين سبقوا الآخرين في مضمار الثورة والتحرير، وهنا إشكالية البلدان الحديثة التي لا تعرف معنى للتوثيق ولا للرصد ولا لحفظ الأضابير الهامة بأسماء وتاريخ المناضلين، والفدائيين والمجاهدين، وهنا تضيع حقائق النِضال والمناضلين في زفّة الضجيج الإعلامي، والثورجي والتطبيلي من جوقة الانتهازيين والمطبلين الذين يتزاحمون على منصّات الخطابات والميكروفونات.
للأسف هذا تقصير وقع فيه الجميع من سياسيين وإعلاميين ومؤرخين وأكاديميين وغيرهم من طبقة الأنتلجنسيا الثورية، لكن المسؤولية الكبرى تقع على الدولة الوليدة ومؤسساتها البحثية والأكاديمية وحتى مراكزها الديماغوجية للتثقيف الحزبي الثوري، لأن أجهزة الدولة الوليدة هي من قبضت على مفاصل السلطة في العام 1967م، لقد تاهت الثورة والثوار في مهبَ عاصفة ما بعد يوم الجلاء، وللأسف تفرّغ الرفاق للصراع الدموي بعد الاستقلال فيما بينهم البين وكذا بينهم وبين خصومهم وهم شتّى، وتاهت معها الحقائق وتاهت التقاليد الثورية، وحصدْ الرِفاق الأحياء ثمارها عِراكاً وتنكيلاً وتآمراً وفشلاً.
دور مدينة صنعاء التاريخي في استيعاب أشقائها وأبنائها من عدن ومدن الجنوب اليمني :
أولاً: عندما انتفضت قبائلُ حِمْيرَ الواحدية، وقبائل آل معور العولقية، وقبايل آل علي العولقية والعوالق عموماً، وقبائلُ حِمْير الواحدية من الساحل الشرقي لسلطنة الواحدي وأسقطوا إحدى الطائرات البريطانية المُغيرة على آل الحميري، وآل السليماني، والمطاهيف، وآل لخنف.. الخ.
وكذلك قبائلَ من يافع وردفان جميعهم نزحوا إلى الشَطر الشمالي من اليمن وسكنوا في تعز وصنعاء والحديدة ومأرب والبيضاء، ووجدوا الحُضن الدافئ من إخوانهم اليمنيين في جميع تلك المدن والمناطق وهذا كان في زمن الإمامة، وفي عهد الجمهورية أي لم يلاقوا غير الترحاب الأخوي من جميع كل تلك المناطق آنفة الذكر.
ثانياً: حينما ضَيّقت السلطات البريطانية وأعوانها على المثقّفين الأحرار في عدن وأدخلت العديد من المثقّفين في غياهب سجونها، انتقل ثُلّة من الرفاق المثقّفين للعيش والسكن المؤقت والطويل في مدن صنعاء وتعز وإب والحديدة، وكانوا ضُيوف على الإمام يحيى آل حميد الدين في مدينة تعز، وأبرز من انتقل إلى تعز القائد والمفكر اليساري / عبدالله عبدالرزاق باديب وأقاربه وركن بين رفاقه كان المناضل المفكر/ سعيد باخبيره رحمة الله عليه، وكذلك الشاعر الكبير/ محمد سعيد جراده.
ثالثاً : حينما تعارك رفاق السلاح الفدائيين لتحرير جنوب اليمن المحتل من بريطانيا، نشب الصراع المسلح بين تنظيمي الجبهة القومية وجبهة التحرير قبيل رحيل المحتل بأشهر، وانتصر نسبياً في الصراع والقتال فريق الجبهة القومية وسلّمتهم بريطانيا السلطة في أكتوبر ونوفمبر من عام 1967 م، حينها هرب قادة جبهة التحرير مع السلاطين والمشائخ إلى المدن الشمالية يوم ذاك، ومن قادتهم المناضل عبدالله الأصنج، وعبدالقوي مكّآوي ومحمد باسندّوة والمئات من رفاقهم وأعوانهم.
رابعاً : حينما تصارع الرفاق في قيادة التنظيم السياسي للجبهة القومية التي تقود الدولة والحزب في عدن وجنوب الوطن، حينما تقاتلوا على السلطة وسجنوا أول رئيس لهم وهو الشهيد الرئيس/ قحطان محمد الشعبي وزج به في سجن الفتح الرهيب، وتم سجن المناضل الشهيد فيصل عبداللطيف الشعبي رئيس وزراء جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وإعدامه داخل سجن الفتح الرهيب، كما سُجن القادة الآخرون أمثال محمد عبدالعليم بانافع والعولقي وغيرهم.
هرب رفاقهم واتباعهم إلى شمال الوطن في شهر يونيو من العام 1969م، والذي أسموه الخطوة التصحيحية، وقبلها هروب القادة العسكريين الكبار في حركة مارس عام 1968م، وكانوا بقيادة اللواء/ حسين عشّال والعوذلي والكازمي وغيرهم من الأتباع.
خامساً: نَفّذ الرفاق في قيادة الجبهة القومية حركة (ثورية) كبرى في العام 0000م، من خلال القيام بالانتفاضات الفلاحية الدموية في عموم جنوب الوطن اليمني وكذلك القيام بحركة تأْمِيم ومُصادرة واسعة شملت الجوانب الاقتصادية والعقارية والملكيات الكبيرة والصغيرة وصولاً إلى دكاكين وصوالين الحِلاقة، واعتبروها ثورة راديكالية جَذْرية ضد طبقة البرجوازية والكمبرادور والأولجارشية وجميع من يقع في طبقة القطاع الخاص الكبير والمتوسط والصغير، تمت المصادرة لصالح طبقة العمال والفلاحين المعدمين، ومن تم تسميتهم بطبقة البروليتاريا والبروليتاريا الرثة، والمعدمة، وهكذا من كل تلك التسميات السطحية المترجمة من اللغات الأجنبية وتحديداً الأوروبية.
بعد كل هذه الإجراءات النزقة غادر القطاع الخاص مُمثّلة في شركات بقشان والعمودي وهائل سعيد أنعم، وإخوان ثابت، وبازرعة، والعطاس والشيباني والخامري، والعيسائي، والبابكري، والعولقي والبغدادي والمحضار وغيرهم من الرأسمال الوطني الذي حضر إلى صنعاء وبعضهم لدول الجزيرة والخليج، هذه الهجرة الواسعة للرأسمال الوطني هي نتاج طبيعي لإجراءات التطرّف السياسي والديني والاقتصادي والمعيشي.
سادساً: نشب صراع جديد على السلطة في يونيو من العام 1978 م بين كُل من الرئيس سالم رُبيّع علي (سالمين) ورفاقه وبين كل من الرِفاق / عبدالفتاح إسماعيل الجوفي وعلي أحمد ناصر عنّتر وعلي ناصر محمد ونتج عن هذا الصِراع الدموي إعدام الرئيس/ سالمين زعيم الفقراء الكادحين كما كانت تطلق عليه الصحافة الحزبية الاشتراكية ورفاقه/ جاعم صالح اليافعي وعلي سالم لعور العولقي/ العوذلي، وتم إعدامهم سراً دون أية إجراءات محاكمة قانونية وزجّ برفاقهم من أمثال الرفيق / علي صالح عباد (مقبل)، والرفيق / حسن أحمد باعوم، والرفيق الحبيب / عبدالله البار وهم أعضاء مكتب سياسي للتنظيم السياسي الموحّد الجبهة القومية، وزج بالمئات من رفاقهم العسكريين والمدنيين، وهرب أتباعهم إلى صنعاء وبقية المدن الشمالية.
سابعاً: وفي العام 1985/1986م جاءت كما يقول العرب ثالثة الاثافي والطامة الكبرى على جنوب اليمن وهي أحداث يناير 1986 م المشؤومة، وتصارع الرفاق مرة أخرى، كصراع الوحوش الكاسرة على السلطة بفريقين عَرَمْرَمَين كَبيرين، قسّما الوطن والشعب والمؤسسات العسكرية والأمنية إلى قسمين، قسم يقوده الرئيس/ علي ناصر محمد ورفاقه، وقسم يقوده علي احمد ناصر (عنتر) والرفيق/ عبدالفتاح إسماعيل الجوفي، وخرج جنوب اليمن بخسارة كبيرة لازال المواطن يدفع ثمنها حتى اليوم، وسيستمر لأجيال عِدة من الزمان.
خسر الوطن أزيد من عشرة آلاف شهيد من كِلا الطرفين، وضاع الآلاف بين مفقود ومدفون بين الكونتينرات ومآت الضحايا الأبرياء وذهبوا بالبطاقة الشخصية.
ونزح أزيد من 100 ألف مواطن من المواطنين الجنوبيين إلى صنعاء وهم من العسكريين والأمنيين والمدنيين والسياسيين والإعلاميين وحتى الفنّانين والشعراء والطبّاخين جميعهم نزحوا إلى الشطر الشمالي من اليمن العظيم.
وفي أثناء العدوان السعودي الإماراتي نزح الآلاف بين المدن اليمنية في حركة لا إرادية، لكن كان النزوح من جميع المدن اليمنية (شمالاً وجنوباً) إلى العاصمة صنعاء هو النزوح الأوسع، إذ وصل النازحين في العاصمة صنعاء إلى قرابة ثمانية ملايين نازح.
الخلاصة :
يقول المثل الروماني الشهير بأن [كُل الطُرق تؤدّي إلى رُوما]، ويقول المثل اليمني [بأن مفتاحها في صنعاء] هذا المثل اعتمده حُكماء الرومان حينما شقّوا الطرقات الوعِرة من حول مستعمراتهم الممتدة يوم ذاك إلى أصقاع الأرض، بأن جميع منتهى وهدف الطرقات التي عبّدوها وبسطوها يجب أن تصل إلى عاصمتهم روما، وهي عاصمة العالم يوم ذاك، أما مثل اليمنيين فمدلوله بأن كل معضلة معقّدة في أجزاء اليمن فإن مفتاحها في صنعاء ولكني أشبّه المثالين بأن اليمنيين منذُ فجر التاريخ وحينما يتصارعون على الماء والكَلى والمراعي، وحينما تتناقض مصالح القبائل والنخب الفكرية والسياسية يتجهون صَوبَ مدينة صنعاء للحصول على لحظة أمن وسلام وطمأنينة، لأن صنعاء منذُ أن أسّسها نبي الله »سام ابن نوح« عليه السلام هي مهبط السلام والأمن والتعايش الأُخوي منذ آلاف السنين، وإنها مدينة وعاصمة للوحدة اليمنية المباركة، فتحيةً وسلام وتعظيم لصنعاء وأهلها الكِرام حاضنة كُل اليمانيون من مختلف المناطق والمذاهب واللهجات والسحنات.
(وَفَوُقَ كُلْ ذِي عِلْمٍ عَلِيْم)
* رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في الجمهورية اليمنية / صنعاء.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|