محمد علي عناش -
< الشعوب العربية وخاصة التي طالتها أحداث ما يسمى بالربيع العربي عاشت تجربة سياسية واجتماعية عنيفة وقاسية طوال عامي 2011 و2012م ومازالت تعيش قسوة ومرارة هذه التجربة التي لم تكن في مآلاتها الكارثية ترجمة حقيقية لإرادة الشعوب في التغيير، وإنما نتاج إرادة أطراف الخارج ممثلة في قطر وتركيا وأمريكا وعبر أدواتهم في الداخل العربي من القوى السياسية والدينية وفي مقدمتها تنظيم الاخوان المسلمين..
فباستثناء تونس نوعاً ما ولأسباب وعوامل اجتماعية وسياسية وتنظيمية أفضت التجربة الثورية الى أمن واستقرار نسبي والى مسار ثوري مستقبلي سيحقق التحولات الجذرية والشاملة في المجتمع التونسي، أما في بقية البلدان العربية فقد استحالت التجربة الثورية الى تجربة قاسية ومدمرة، ولم يفض مشروع الربيع العربي الا الى مشروع الفوضى السياسية والاجتماعية والامنية التي ربما اسقطت انظمة فاسدة وقمعية لكنها لم تتمكن حتى الآن من إقامة الأنظمة البديلة، التي تترجم الإرادة الجمعية ومشروع التغيير والبناء الاجتماعي والديمقراطي، نتيجة لشيوع وعي الاستحواذ والتربص والغلبة لدى بعض القوى الاجتماعية والدينية والسياسية وخاصة تنظيم الاخوان المسلمين، الفصيل الفاعل في مشروع الفوضى العربية.
القاسم المشترك في مشروع الفوضى العربية في جميع الدول التي عاشت هذه التجربة ومازالت تعيشها، أن الدولة صارت هي الأخرى مستهدفة بالاسقاط وكذلك المجتمعات مهددة بالانهيار الكلي والشامل نتيجة لوعي الغلبة والتربص الذي تغذيه وترسخه عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية متأصلة في هذه المجتمعات.
تجليات هذا المشروع الفوضوي تبدو بوضوح في ليبيا ومصر واليمن وبشكل متفاوت وفقاً لدرجة العوامل الاجتماعية والسياسية وحدتها في كل بلد، الا أن هذا المشروع يبدو أكثر فوضوية ومأساوية في سوريا نظراً لحجم الخسائر المادية والبشرية، ونظراً لحجم التدخل السافر والمركز من قبل ممولي ومنظمي المشروع الفوضوي، ودعمهم اللامحدود للجماعات الارهابية والمتطرفة التي تعبث وتدمر في البلد العربي المقاوم سوريا، وترتكب الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الشرع والإنسانية بحق السوريين، لا لتقيم حرية ولا ديمقراطية ولا دولة مدنية كما روجت له النخب الثقافية والسياسية كالمهرج برهان غليون ومن لف لفه من دواشين السياسة ومسوخ الحداثة والفكر النهضوي العربي، وإنما لتقيم دولة دينية مستبدة ومتطرفة كنموذج دولة طالبان والدول التي نشأت في العصور الوسطى.
حان الآن مرحلة التقييم الموضوعي والمنطقي لهذه التجربة بكل ما حملته من سلبيات وإيجابيات وما أحدثته من مآلات ومسارات مدمرة وكارثية حتى نتجاوز هذا المنعطف الخطير وتجلو هذه الضبابية التي سيطرت على وعي وثقافة الناس ومواقفهم وبالمختصر: نتجاوز هذه الأزمة المعقدة التي استوطنت واقعنا العربي على جميع المستويات، فالحاكم العربي في هذه المجتمعات قد سقط غير أن هذه المجتمعات وخاصة القوى المتطلعة للتغيير والتحول نحو الأفضل، تشعر كما لم تشعر به من قبل بخيبة الأمال وبهزيمة فكر متحرر وهزيمة مشروع التغيير والنهضة العربية، أمام مشروع الردة والانتهازية العربية، الذي يتستر بالدين المكيف بآراء واجتهادات ومواقف القيادات الحزبية والمشيخية المتكئة على قاعدة المصلحة والمنفعة للتنظيم، كما هي مواقف الرئيس المصري مرسي تجاه شركاء التجربة الثورية، وتجاه القضاء والدستور المصري.. وكما هي مواقف فرعون المرحلة ورمز تبلدها وتخلفها «الشيخ القرضاوي» الذي استحل دماء السوريين حتى بالسلاح المشترى بالمال الحرام والذي فيه شبهة كما أفتى، لم يستثنِ شيئاً، فقد برر جميع الجرائم والانتهاكات التي تحدث، حتى جهاد المناكحة له مبرراته كما يرى هو، لا كما ترى شريعة السماء، لكنه لا يخجل وهو يطمئن أمريكا محفزاً لها بمزيد من الدعم لجبهة النصرة، عندما قال في لحظة زلة لسان: «من قال إن انتصار الجماعة الاسلامية في سوريا سوف يهدد أمن دولة اسرائيل .. هذا كلام غير صحيح».
نعم الشعوب العربية باتت تشعر ليس فقط بالمرارة والخيبة، بل باتت تشعر بهزيمة فكر وهزيمة مشروع التغيير، تشعر بأن لا جديد إيجابي تحقق سوى الأسوأ، وسوى فقدان الايجابي لدى الانظمة التي سقطت.. فمنطقياً لا يمكن أن يكون نظام مرسي أفضل من نظام مبارك مهما كانت مساوئ الأخير، لأن الاول أكثر سوءاً وسخفاً، والسبب الحقيقي في إنتاج هذه المعادلة المختلة هو عدم قدرة الطرف الثالث المتمثل في القوى المدنية والتقدمية على النهوض بشكل قوي ومنظم، وعدم قدرتها على التكيف والانسجام لإحداث الاصلاحات المهمة والخطيرة من داخل بنية النظام في لحظة ضعفه وتهاويه.
مما لاشك فيه أن التجربة الثورية في هذه المرحلة تعيش مأزقاً تاريخياً خطيراً، الأمر الذي يتطلب من القوى التقدمية إعادة حساباتها، وإجراء تقييم عميق موضوعي على جميع المستويات، خاصة وأن مآلات هذه التجربة دخلت طور الصراع الايديولوجي والثقافي بمختلف تفرعاته وعقائده في ظل غياب المجتمع المدني في البلدان العربية، وفقدان الفاعلية المنظمة للقوى المدنية الحديثة.