منصور الغدره -
كان الشاعر حكيماً في رسم صورة حقيقية لسلوكيات الفرد والمجتمع واشباه الجمهوريات حينما قال : النار ما تحرق إلاّ رجل واطئها.. لأنه بالتأكيد ان النار التي اشعلتها وأوقدتها ستكون أنت أول حطبها وأول ضحاياها اينما كانت وحيثما اشعلتها سيطالك لسان لهبها..
وهذا ما يمكن تطبيقه على النظام الايراني الذي اراد ان يشعل النار في شعوب ومجتمعات دول المنطقة، واصبحت هذه النار اليوم تمثل اضطرابات ومواجهات واحتجاجات عمت ريف وحضر بقايا الامبراطورية الفارسية، لتصل الأوضاع الى مواجهات واعتقالات وقمع لمعارضي نظام ولاية الفقيه، الذي بدا انهيار جموده متسارعاً، بعد ان ظل طوال ثلاثة عقود كنظام بوليسي يفرض على المجتمع اعتناق الوصايا العشر لولاية الفقيه بالقوة، واتباع سياسات خاطئة على المستويين الداخلي والخارجي.
فعلى المستوى الداخلي مارس القمع والاقصاء والتكميم لمعارضيه ومخالفيه في الرأي، والذين يرفضون تلك الولاية باعتبارها قاعدة متخلفة لاتبني نظاماً مؤسسياً متحضراً، استحضرها الخميني من الفكر الشيعي التقليدي، الذي يرى ان قيام الدولة لاتكون إلاّ بولاية الفقيه حضوراً وغياباً، فكلما حضر الفقيه كانت الولاية، واذا ما غاب غابت معه.. والخميني وأتباعه من فقهاء النجف وقم استخدموا هذه الفرية السياسية المغلفة بجلباب الخميني حينما استغل الاعتقاد بالشائعة حينها لدى شريحة واسعة من المجتمع الايراني والعراقي عما يسمى بغياب الامام والذي لاتكون الولاية الشرعية إلاّ بعودته، فاستخدم الخميني وأتباعه من فقهاء قم والنجف هذا الاعتقاد للالتفاف على طموحات الايرانيين.. حينما أوهم الناس انه هو الامام الغائب الذي ينتظرونه منذ أمد بعيد، وها هو قد عاد.. لكنه في حقيقته لم يكن لا إماماً ولا فقيهاً، ولا مرشداً.. انما سرقهم الآمال التي كانوا يرجونها من ثورتهم ونضالاتهم ضد مملكة عقيمة وامبراطورية فارسية للشاه، لتأتي ولاية الفقيه أفسد من المملكة، استخدمت السلطة الاستخدام السيئ في علاقات ايران، من خلال سياستها الخارجية القائمة على حب الهيمنة والنفوذ والاطماع التوسعية لالتهام دول المنطقة.
ومنذ مجيئ تيار اصحاب ولاية الفقيه بقيادة الخميني عام 1979م، وايران في حالة طوارئ على مستوى الداخل والخارج نتيجة ما يسعى اليه اصحاب هذا التيار المتحكم بمصير الجمهورية.. وهذا التيار يكرس جهوده واهتمامه لتحقيق هدفين، قمع المعارضين او الرافضين لولاية الفقيه، والسياسة التوسعية في المنطقة.
على صعيد الداخل الايراني شرعن الخميني سياسة الاقصاء والقمع والتصفية لمعارضي فكرة ولاية الفقيه مع انهم كانوا يُعدون من رموز الثورة المزعومة.. المخملية- التي استلمها الخميني بعد فترة استجمام قضاها في ضواحي باريس في الوقت الذي كانت فيه جثث الايرانيين من الضحايا تغطي شوارع المدن.
إذ أقصي رفيقه منتظري ومنع عنه الماء والهواء والظهور على الناس وحجب عنه الشمس ليضعه تحت الاقامة الجبرية في منزله من الساعة الاولى لولايته، ولم ينتهِ هذا الاجراء بوفاة الخميني عام 1979م فحسب، وانما فرضه ايضاً ورثة الولاية ليستمر حتى وفاته قبل اسابيع.
الأفظع في هذا تلك الهستيريا التي اصابت القيادة الايرانية ورعبها من منتظري الذي تحول الى كابوس يؤرق اركان النظام، الى جانب رعب موسوي.
بدا هذا الاضطراب واضحاً في القيادة الايرانية من خلال استخدامها للقوة المفرطة ضد المشيعين لجثمان منتظري، وضد التظاهرات والتي عمت تقريباً كل مدن ايران لتخلف وراءها ضحايا وقتلى بالعشرات والمئات، وجرحى واعتقالات بالآلاف.
أما على المستوى الخارجي والجري وراء حلم ولاية الفقيه في اعادة الامبراطورية الفارسية- لكنها بمذهب صفوي طائفي عرقي- على وقع هذا الخيال سعى تيار المحافظين من فقهاء طهران الى اللهث وراء سراب الامبراطورية، وفي سبيل ذلك وظف قادة ايران كل امكانات ومقدرات الشعب الايراني في انفاق المليارات لبناء ترسانة عسكرية والتصنيع الحربي والوصول الى القنبلة النووية لاستخدامها في تخويف دول المنطقة وتنفيذ اطماع التوسع من خلال الاعتداء واحتلال اراضي الجوار، وخوض الحروب والمواجهات العسكرية مباشرة كما هو الحال مع الامارات العربية المتحدة والعراق.. او عبر تبني ودعم التمردات واثارة الفتن والقلاقل من خلال تمويل الجماعات الارهابية كما هو حاصل في اليمن ولبنان والعراق والسعودية والبحرين وفلسطين والكويت.
لكن الملاحظ ان ايام سقوط اصنام ولاية الفقيه في ايران قربت.. فالغليان الذي تعيشه المدن الايرانية هذه الايام ماهو إلاّ مؤشر على دنو السقوط المريع لأصنام الجمهورية الوهمية.. وما تلك الاحتجاجات إلاّ مقدمة وعوامل تمهد لذلك.. وهي شبيهة بالاحداث التمهيدية التي شهدتها المملكة الايرانية في عهد الامبراطور الشاه، وادت الى الاطاحة بحكمه وبفساده حينما خرجت الجماهير الايرانية عن بكرة أبيها الى الشوارع ضد فساد حكومة الشاه، وتصاعد الغضب الجماهيري عام 1976م عندما بدأ الشاه في قمع القوى اليسارية وتنفيذ عمليات اغتيالات لقيادة المعارضة داخل وخارج ايران، في الوقت الذي كان هناك تنامٍ قوي لتيار الفقهاء من الحوزات في قم والنجف وأتباع وأنصار الخميني داخل السلطة الشاهية، الى درجة اطلق حينها على التيارين- اليساري والديني- بالاستعمار الاحمر والاستعمار الاسود.. تصاعد القمع البوليسي، فتصاعد معه الغضب الشعبي ليصل في ديسمبر 1978م -بعد انضمام القوات الجوية الى صف الشارع في مظاهرة مليونية ضد الشاه.
وفي 16يناير 1979م يغادر الشاه عاصمته لآخر مرة وبقيت حكومة بختيار.. وفي مطلع فبراير من نفس العام عاد الخميني من مصيفه في باريس الى طهران ليباشر على الفور بتشكيل الحرس الثوري ومن ثم اجبار المواطنين على الخروج الى الشارع رغم معارضة الكثير من رفاقه.. لكنه أفتى بأن الخروج الى الشارع واجب شرعي على كل ايراني، ما أدى ذلك الى سقوط اكثر من 20 ألف في الصدامات بين المواطنين وقوة حكومة بختيار خلال يومي 10-11فبراير، فضلاً عن اصابة عشرات الآلاف في المواجهة.. وغطت جثث الضحايا شوارع طهران فسقطت حكومة بختيار التي كانت بمثابة ترانزيت لتيار الفقهاء بقيادة الخميني وعلى الفور تمكن تيار الفقهاء من بلوغ سدة حكم ايران بعباءة الجمهورية وعمامة الصفوية.
ولأن الثورة كانت شعبية صرف وعفوية من الجماهير فلم يكن لها مشروع واضح واهداف واضحة عدا اسقاط حكومة فساد الشاه، استغل فقهاء النجف وقم الفرصة لسرقة الثورة من اصحابها وتمرير مشروعهم بإعادة الامبراطورية الفارسية الصفوية..
ومع ان المسودة الاولى لدستور الجمهورية والموجودة حتى الآن في المتحف الايراني والموقعة من الخميني نفسه لم تتضمن ولاية الفقيه.. إلاّ أنه بعدما عمل تيار الحوزات على ازاحة المفكرين والمثقفين أُدخل تعديل على الدستور وتضمينه ولاية الفقيه.. وبرر هذا التيار ذلك بأن لا ولاية شرعية إلاّ للامام، والخميني هو الإمام المنتظر.
ومن يومها انقسمت النخب الايرانية الى فريقين -كتلة المحافظين بقيادة الخميني، وهو تيار ذو نزعة جمودية يهتم بالبازارات وليس الاستثمار والتنمية، وتيار الاصلاحيين الذي لم يضع أقدامه في السلطة إلاّ بعد ان توفى الخميني عندما تولى رفسنجاني رئاسة الجمهورية، ثم خاتمي من 79 - 2005م، ولاتزال نضالات هذا التيار متواصلة الى اليوم، من رفسنجاني وموسوي، وخاتمي.. فهل يفعلها موسوي وانصاره في القضاء على ولاية الفقيه..؟!
إيران.. النار ما تحرق إلاّ رجل واطيها..!!
