الميثاق نت -

الأحد, 15-يونيو-2025
سعيد عبد الحميد الشرعبي -
من لم تطأ قدماه أزقة صنعاء القديمة، ولم يتنفس عبق الماضي المتدفق من بين جدرانها، ولم يسِر بين أسواقها العتيقة، فهو بلا شك قد فاته جزء عظيم من تاريخ الإنسانية وذروة الإبداع العمراني والجمالي الذي خطّه الإنسان اليمني قبل آلاف السنين.
صنعاء القديمة، أو المدينة العتيقة، ليست مجرد حي قديم في قلب العاصمة اليمنية، بل هي سجل حي نابض بتاريخ أمة، وعنوان لمجدٍ سكن الجدران، وتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية لسكانها الذين حافظوا على روح المكان، رغم تقلبات الزمن وعواصف الإهمال.

جذور ضاربة في عمق الزمن
يعود تاريخ صنعاء القديمة إلى ما قبل الميلاد، وتحديداً إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حين كانت إحدى الحواضر الكبرى في مملكة سبأ، تحدثت عنها كتب التاريخ، وذكرتها نقوش المسند، ووصفها الرواة والرحالة من مختلف بقاع الأرض، منبهِرين بما رأوه من تخطيط معماري فريد وأسواق نابضة بالحياة.
وبالرغم من أن عمرها يزيد على 2,500 عام، إلا أن معظم مبانيها الحالية تعود إلى ما قبل 700 عام، وهو ما يُبرز قدرتها على الاستمرارية والتجدد والحفاظ على هوية عمرانية وإنسانية قل نظيرها في العالم.

العمارة السحرية: إبداع من الطين واللبن
مباني صنعاء القديمة ترتفع شامخة بطوابقها المتعددة، مشيدة من اللبن والطين، ومزينة بزخارف جبسية ونقوش هندسية رائعة، ونوافذها المزخرفة بـ"القمريات" الملونة تشبه اللوحات الفنية التي تعكس الضوء بروعة لا تضاهى.
يستوقفك تناسق المباني، وانسجام الطوابق، وتوزيع النوافذ والأقواس، لتدرك أنك أمام فن معماري لا يقل عن عظمة ما أبدعته الحضارات الكبرى، بل يفوقها في روح الانتماء للأرض والبيئة، حيث لا يُستخدم سوى ما هو طبيعي ومحلي، هذه العمارة ليست فقط جميلة، بل ذكية أيضاً، حيث تمنح الداخل دفئاً في الشتاء وبرودة في الصيف.

أسواق تنبض بالحياة والأصالة
تتوزع الأسواق القديمة في صنعاء بطريقة منظمة تبهر الزائر:
سوق البز: للأقمشة الفاخرة.
سوق الزبيب: يعكس أهمية الزراعة اليمنية وجودة العنب المجفف.
سوق الحبوب: يضم أنواع الحبوب اليمنية المعروفة.
سوق الحدادة، النجارة، الفخار: يعرض روائع الحرف التقليدية.
سوق الجنابي: موطن صناعة الخناجر اليمنية الشهيرة.
سوق الفضة والذهب: حيث تلمع الحلي المصنوعة يدويًا بدقة متناهية.
هذه الأسواق ليست مجرد مراكز للبيع والشراء، بل هي مدارس للحرفة ومتاحف للتراث الحي، حيث يتوارث الحرفيون فنونهم أباً عن جد، ويمنحون الزائر لمحة عن تاريخ طويل من المهارة والصبر والإبداع.

عبق الأصالة وروح الانتماء
التجول في صنعاء القديمة لا يشبه أي تجربة أخرى، تشعر هناك بالدفء، وكأن الجدران تحضنك، والروائح تنقلك لعصور مضت، كل زاوية فيها تحكي قصة، وكل نافذة تروي حكاية، وكل درج حجري يخفي خلفه عبق التاريخ.
ما تزال الحرف اليدوية، من صناعة الجلود إلى صياغة الفضة والخزف، تحافظ على رونقها وأصالتها، رغم التحديات الكبرى التي تمر بها المدينة.

صنعاء في ذاكرة العالم
لجمالها وتفردها، اختارتها اليونسكو عام 1986م لتكون ضمن قائمة مواقع التراث الإنساني العالمي، لم يكن ذلك تكريماً لها فحسب، بل اعترافاً عالمياً بأنها من أهم المدن التاريخية الحية في العالم.

لكنها اليوم.. تشكو الإهمال
رغم عظمتها، تعيش صنعاء القديمة اليوم تحت وطأة الإهمال والتدهور، نتيجة الحرب، وقلة الموارد، وغياب الرؤية الواضحة لصون التراث، العديد من منازلها تضررت أو انهارت، والعديد من حرفييها هجروها مضطرين، أصبحت جوهرة اليمن تصرخ طلباً للعناية، تستغيث بكل من يقدّر التاريخ والجمال والهوية.

صنعاء تستحق الحياة
صنعاء القديمة ليست مجرد مكان، بل هوية وهواء وتراث ووجدان، إن إنقاذها من التآكل ليس مسؤولية اليمنيين وحدهم، بل واجب إنساني عالمي، فكل حجرة فيها تنطق بالتاريخ، وكل نقش فيها هو قصيدة في الجمال.
من لم يزر صنعاء القديمة لم يعرف كيف يمكن للطين أن يتحول إلى فن، وللتاريخ أن يُعاش بين الأزقة، وللجمال أن يتجسد مدينة.
تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 16-يونيو-2025 الساعة: 03:41 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-67602.htm