طه العامري - كل شيء قابل للنسيان والتجاوز، وإنْ كانت أحداثاً تاريخية عابرة مثل الحروب والنزاعات والصراعات الأهلية؛ لكن حَدَثاً بحجم ومكانة الوحدة اليمنية فهذا هو الحَدَث الذي سيظل الحاضر دوماً حتى في ظل الصراعات والأزمات الداخلية، فالوحدة اليمنية ليست مجرد حدث عابر في مسارنا الحضاري، بل كانت ولا تزال الحُلم الأكثر قداسةً في الوعي والوجدان والذاكرة الجمعية الوطنية.. نعم رغم كل ما حَلَّ بهذا البلد من أزمات متتالية بفعل المكايدات السياسية والحسابات الخاطئة للفعاليات الوطنية المتنافسة فيما بينها على المصالح والنفوذ، فإن الوحدة اليمنية تبقى هي الإنجاز الأعظم والأكثر قداسةً في الوجدان الجمعي الوطني بمعزلٍ عن حسابات النخب المتصارعة على جَنْي خيراتها وخيرات الوطن..
35 عاماً مرت من عمر الوحدة اليمنية، أعوام واجه خلالها الوطن والشعب أحداثاً وعواصف وأزمات مركَّبة، لكن كل ذلك لم ينل من عظمة الحدث الوحدوي والإنجاز الحضاري الأعظم الذي شهده الوطن والأمة في العقد الأخير من القرن العشرين، في لحظة كانت خارطة العالم تعيد تقسيم ذاتها فغابت خلالها إمبراطوريات ودول وصعدت أخرى؛ فيما تميَّزت اليمن بإنجازها الحضاري الاستثنائي، وكأن الشعب اليمني كان يرسل رسائله لكل العالم أن له قوانين خاصة وأن منجزاته الحضارية تولد من رحم الأزمات أياً كانت مخاطر وأخطار تلك الأزمات..
نختلف اليوم على كل شيء، على السلطة والحكم والثروة، نتصارع ونخوض مواجهات دامية فيما بيننا على مصالحنا، لكن أحداً مِنا لا ينكر حقيقة الوحدة اليمنية، بمَنْ في ذلك أولئك الذين رفعوا شعار (الانفصال) ولكن ليس رغبة بالانفصال بل رغبة بضمان مصالح يرى البعض أن الوحدة أفقدته إياها..؟!
إن مشكلتنا الحقيقية ليست في الوحدة كإنجاز حضاري وتاريخي وحَدَثٍ أعادنا إلى وضعنا الطبيعي لم نبتدعه ولم نخترعه لأن اليمن واحدة، جزَّأها نظاما الإمامة والاستعمار؛ ومع قيام الثورة اليمنية التي تخلصت من نظامي الجهل والتخلف والغطرسة والاستبداد، كان من الطبيعي أن يُعاد ما كان إلى ما كان عليه إلى وضعه الطبيعي.. فالوحدة اليمنية ليست مجرد وحدة جغرافية متلاصقة ببعضها، بل هي قِيَم وتراث حضاري وعادات وتقاليد وتَرابُط اجتماعي وأُسَري ودماء تجري في العروق وتَمازُج أنساب ووحدة جينات ومشاعر وثقافة وتاريخ مكتوب بدماء أبناء الوطن الواحد، فأول شهداء أكتوبر (عبود الشرعبي)، وأول طلقة أطلقها الشهيد غالب بن راجح لبوزة لم تكن في جبال ردفان، بل كانت في محور حرض وهو يطارد فلول النظام الملكي دفاعاً عن ثورة سبتمبر الخالدة.. حين شاهد الشهيد لبوزة طائرات الاستعمار البريطاني تدخل المعركة ضد ثورة سبتمبر إلى جانب قوى الثورة المضادة، قرر أن يعود لجبال ردفان ليفجّر ثورة يُشغِل بها الاستعمار ويبعده عن ثورة سبتمبر..
كم شهيداً من أبناء جنوب الوطن سقط دفاعاً عن ثورة سبتمبر وصنعاء؟، وكم شهيداً من أبناء شمال الوطن سقطوا دفاعاً عن استقلال شطرنا الجنوبي؟..
نَعَمْ.. هناك اليوم من ربط قدسية الوحدة بمصالحه، وهذا سلوك بشري جائز حدوثه حين يُغلّب البعض مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن، وحين يربط البعض من النافذين مصالحهم وقرارهم بقوى خارجية يستمدون منها شرعية وجودهم على المشهد الوطني، ويتناسون أن الشرعية الحقيقية تأتي من الشعب وليس من أي قوى أخرى خارجية مهما كانت عَظَمتها، بدليل أننا نخوض في معترك الخصومة منذ بزغ فجر الوحدة، ولم نفكر لحظة أن شرعيتنا تأتي من شعبنا وأن المفترَض أن نعود لشعبنا وأن نتعصب لهويتنا الوطنية، وليس لهويتنا الطائفية أو المذهبية أو الحزبية أو المناطقية؛ وأن نفكر بعقول وطنية وليس بعقول ذاتية توغل في تجزئة الوطن والهوية والقدرات..
الوحدة اليمنية ستظل هي الحقيقة الوحيدة الراسخة في مسارنا الحضاري؛ وكل ما يجري سيذهب حين تعود العقول إلى رشدها، وحين يدرك أصحاب المشاريع الصغيرة أن مشاريعهم وبال عليهم ولعنة، وأن المشروع الوطني هو المنتصر في النهاية..
تحية إجلال وتقدير لكل المناضلين الذين ناضلوا من أجل الوحدة أحياءً كانوا أو أمواتاً.. والرحمة والخلود لكل من سقطوا على طريق تحقيقها والانتصار لقِيَمها.. واثقين بأن كل ما يجري على خارطة الوطن لن ينتقص من عَظَمة هذا الحَدَث الوطني وإنْ حاول البعض التعامل معه بصورة عابرة أو الانتقاص منه على خلفية شعوره بأن هناك مَنْ انتقص من مصالحه ومكانته..
وستبقى وحدتنا اليمنية هي حُلُمنا المتجدّد الراسخ في وجداننا والذاكرة.
|